فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ أَعُوذُ}
وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرئ {فخذ أربعة} [البقرة: 260] {بِرَبّ الناس} أي مالك أمورهم ومر بيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورًا.
{مَلِكِ الناس}
عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى: {إله الناس}
فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادًا وإعدامًا وجوزت البدلية أيضًا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلًا ثم ماهنا وإن لم يكن جامدًا فهو في حكمه ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقة بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمن والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى انجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطبق به قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65] واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى: {مِن شَرّ الوسواس}
وبحث فيه بعد الاغماض عما فيه من القصور في توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الأبدان أيضًا وفيه شيء سنشير إن شاء الله تعالى إليه واختار هذا الباحث في ذلك أنه لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب إلى كل شيء أي بناء على عموم الفلق ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء وكان النظر إلى السورة السابقة يقتضي الإضافة إلى الوسواس لكنه لم يضف إليه حطًا لدرجته عن إضافة الرب إليه بل إلى المستعيذ وكان في هذا الحط رمزًا إلى الوعد بالإعاذة وهو الذي يجعل لما ذكر حظًا في أداء حق المقام وربما يقال إن في إضافة الرب إلى الناس في آخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإقرار به فيما بعد كما أشار إليه قوله تعالى: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] الآية فيكون في ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد وفيه أيضًا رمز إلى الوعد الكريم بالإعاذة وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارًا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولًا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربًا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير وينذرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلًا لاختلاف الفات منزلة اختلاف الذت فإن عادة من ألف به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطاه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المتشكي والمفزع وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها ولابن سينا هاهنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فأنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيًا والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والهمس الخفي ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به هاهنا الشيطان سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس.
وقال بعض أئمة العربية أن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفاء ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بها المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من شر وسوسة الوسواس قيل وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في (صحيح البخاري) يعقد على قافية رأس العبد إذا هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه وقوله تعالى: {الخناس} صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز وجل.
أخرج الضياء في (المختارة) والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس فإذا غفل وسوس وله على ما روى عن قتادة خرطوم كخرطوم الكلب ويقال إن رأسه كرأس الحية.
وأخرج ابن شاهين عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن للوسواس خطمًا كخطم الطائر فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس».
{الذى يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناس}
قيل أريد قلوبهم مجازًا وقال بعضهم إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقى منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلًا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والايمان به ومن ذلك أن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية أنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي وقال ابن سينا الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادي المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنص أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسًا ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول أما الجر على الوصف وأما الرفع والنصب على الذم والشتم ويحسن أن يقف القارئ على أحد هذين الوجهين على {الخناس} وأما على الأول ففي (الكواشي) أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظرًا للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة.
{مِنَ الجنة والناس}
بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وأنسي كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] أو متعلق ب{يوسوس} ومن لابتداء الغاية أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقى في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون ومن جهة الناس مثل أنت يلقى في قلبه من جهة المنجمين والكهان أنهم يعلمون الغيب وجوز فيه الحالية من ضمير يوسوس والبدلية من قوله تعالى: {من شر} [الناس: 4] بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن من تبعيضية وقال الفراء وجماعة هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضًا فيقال كما نقل عن الكلبي ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيمًا له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته وتعقب أيضًا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه ولا يجوز جعل الآية دليلًا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم {من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُو الداع} [القمر: 6] ثم يبين بالجنة والناس فإن كان كل فرد من أفراد الفريقين مبتلي بنسيان حق الله تعالى إلا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى ثم أنه قيل أن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفًا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه ومثل هذا الرمز ما قيل إن أول حروفه الباء وآخرها السين فكأنه قيل بس أي حسب ففيه إشارة إلى أنه كاف عما سواه ورمز إلى قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وقد نظم ذلك بعض الفرس فقال:
أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين ** يعني اندرد وجهان رهبر ما قرآن بس

ومثله من الرموز كثير لكن قيل لا ينبغي أن يقال إنه مراد الله عز وجل نعم قد أرشد عز وجل في هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه كما أرشد جل وعلا إليها في الفاتحة بل لا يبعد أن يكون مراده تعالى على القول بأن ترتيب السور بوحيه سبحانه من ختم كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس الإشارة كما في الفاتحة إلى جلالة شأن التقوى والرمز إلى أنها ملاك الأمر كله وبها يحصل حسن الخاتمة فسبحانه من ملك جليل ما أجل كلمته ولله در التنزيل ما أحسن فاتحته وخاتمته. اهـ.

.قال الشوكاني:

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}
وقرأ الجمهور: {قُلْ أَعُوذُ} بالهمزة.
وقرئ بحذفها، ونقل حركتها إلى اللام.
وقرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس.
وقرأ الكسائي بالإمالة.
ومعنى {ربّ الناس}: مالك أمرهم، ومصلح أحوالهم، وإنما قال: {ربّ الناس} مع أنه ربّ جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم، ولكون الاستعاذة وقعت من شرّ ما يوسوس في صدورهم.
وقوله: {مَلِكِ الناس} عطف بيان جيء به لبيان أن ربيته سبحانه ليست كربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق الملك الكامل، والسلطان القاهر.
{إله الناس} هو أيضًا عطف بيان كالذي قبله لبيان أن ربوبيته، وملكه قد انضمّ إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالاتحاد والإعدام، وأيضًا الربّ قد يكون ملكًا، وقد لا يكون ملكًا، كما يقال ربّ الدار، وربّ المتاع، ومنه قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] فبين أنه ملك الناس.
ثم الملك قد يكون إلها، وقد لا يكون، فبيّن أنه إله؛ لأن اسم الإله خاصّ به لا يشاركه فيه أحد، وأيضًا بدأ باسم الربّ، وهو اسم لمن قام بتدبيره، وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلًا كاملًا، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك، فذكر أنه ملك الناس.
ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه، وأنه عبد مخلوق، وأن خالقه إله معبود بيّن سبحانه أنه إله الناس، وكرّر لفظ الناس في الثلاثة المواضع؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار؛ ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس.
{مِن شَرّ الوسواس} قال الفرّاء: هو: بفتح الواو بمعنى الاسم، أي: الموسوس، وبكسرها المصدر، أي: الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة.
وقيل: هو بالفتح اسم بمعنى الوسوسة، والوسوسة: هي حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة، أي: حدّثته حديثًا، وأصلها الصوت الخفيّ.
ومنه قيل: لأصوات الحلي وسواس، ومنه قول الأعشى:
تسمع للحلى وسواسًا إذا انصرفت

قال الزجاج: الوسواس هو الشيطان، أي: ذي الوسواس.
ويقال إن الوسواس ابن لإبليس، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] ومعنى {الخناس}: كثير الخنس، وهو التأخر، يقال خنس يخنس: إذا تأخر، ومنه قول العلاء بن الحضرمي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإذا دخسوا بالشرّ فاعف تكرّما ** وإن خنسوا عند الحديث فلا تسل

قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض.
وإذا لم يذكر انبسط على القلب.
ووصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} [التكوير: 15] يعني: النجوم لاختفائها بعد ظهورها، كما تقدّم.
وقيل: الخناس اسم لابن إبليس، كما تقدّم في الوسواس.
{الذى يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناس} الموصول يجوز أن يكون في محل جرّ نعتًا للوسواس، ويجوز أن يكون منصوبًا على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعًا على تقدير مبتدأ.
وقد تقدّم معنى الوسوسة.
قال قتادة: إن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس.
قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفيّ يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
ثم بيّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني، وإنسي، فقال: {مِنَ الجنة والناس} أما شيطان الجنّ، فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس، فوسوسته في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته، كما قال سبحانه: {شياطين الإنس والجن} [الأنعام: 112] ويجوز أن يكون متعلقًا بـ: {يوسوس} أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنة، ومن جهة الناس، ويجوز أن يكون بيانًا للناس.
قال الرازي، وقال قوم: من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله: {فِى صُدُورِ الناس} لأن القدر المشترك بين الجنّ والإنس يسمى إنسانًا، والإنسان أيضًا يسمى إنسانًا، فيكون لفظ الإنسان واقعًا على الجنس، والنوع بالاشتراك.
والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجنّ ما روي أنه جاء نفر من الجنّ.
فقيل لهم: من أنتم؟ قالوا: ناس من الجنّ.
وأيضًا قد سماهم الله رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} [الجن: 6].
وقيل: يجوز أن يكون المراد أعوذ بربّ الناس من الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ ربّه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربّه من جميع الجنة، والناس.
وقيل: المراد بالناس الناسي، وسقطت الياء كسقوطها في قوله: {يَوْمَ يَدْعُو الداع} [القمر: 6] ثم بيّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وأحسن من هذا أن يكون قوله: {والناس} معطوفًا على الوسواس، أي: من شرّ الوسواس، ومن شرّ الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شرّ الجنّ والإنس.
قال الحسن: أما شيطان الجنّ، فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس، فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجنّ شياطين، وإن من الإنس شياطين، فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس.
وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجنّ، كما يوسوس في صدور الإنس، ووأحد الجنة جنيّ كما أن وأحد الإنس إنسيّ.
والقول الأوّل هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلاّ بالمعنى الذي قدّمنا، ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وقد أخرج ابن أبي داود عن ابن عباس في قوله: {الوسواس الخناس} قال: مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب، فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس، وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخنّاس.
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، وأبو يعلى، وابن شاهين، والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسيه التقم قلبه، فذلك الوسواس الخنّاس».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {الوسواس الخناس} قال: الشيطان جاث على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة، والبيهقي عنه قال: ما من مولود يولد إلاّ على قلبه الوسواس، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس، فذلك قوله: {الوسواس الخناس}.
وقد ورد في معنى هذا غيره، وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان، وإن لم يكن على طريق الاستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة. اهـ.